- د. قميحة: نشر الرواية ليس ضربةً للدين ومنعها ليس انتصارًا له
- د. القاعود: العلمانيون يثيرون ضجةً للتشويش على القضايا الأساسية
- د. عزة هيكل: تصدير الرواية بأقلام رجال دين خروج بالرواية عن سياقها
تحقيق- سالي مشالي
قامت دار الشروق مؤخرًا بنشر رواية نجيب محفوظ الشهيرة والمثيرة للجدل "أولاد حارتنا"، وهو النشر الذي يعد الأولَ من نوعه في مصر بعد حوالي نصف قرن من المنع ظلت فيه الرواية محلَّ جدلٍ منذ نشرها أول مرة في صورة حلقات مسلسلة على صفحات جريدة الأهرام عام 1959م، وحتى الآن.
وظل الجدلُ دائرًا طوال هذه المدة بين اعتراض عددٍ من رجال الدين على الروايةِ بسبب شخصياتها التي رأوا أنها ترمز للأنبياء بصورةٍ لا تليق بهم، ومطالبتهم بعدم نشرها، وبين المثقفين الرافضين للتعامل مع الرواية بأسلوب المنع، وظل عامل الحسم دائمًا في يد نجيب محفوظ نفسه الذي أعلن أنه لن ينشرها في مصر إلا بموافقة الأزهر وبمقدمة يكتبها أحد رجال الدين، أما الأزهر فلم يصدر قرارًا بالمنع ضد الرواية من الأساس ولم يصدر تصريحًا بالنشر أيضًا.
إلا أن ما أعاد الرواية للنور هو تصدير الرواية بمقدمةِ للمفكر الإسلامي الدكتور د. محمد سليم العوَّا، كما قام المفكر الإسلامي د. أحمد كمال أبو المجد بكتابة خاتمةٍ للرواية.
ومن جانبه أكد إبراهيم المعلم- الأمين العام للناشرين المصريين والعرب- وصاحب دار "الشروق" بأن داره لم تطلب موافقة "الأزهر" لتصدر الرواية، لأن "الأزهر" برأيه، لا يملك سلطةً قانونيةً تخوِّل إليه مراقبة الكتب ومنعها، وإن كان قد أكد أنه يستطيع الاقتراح على أجهزة الرقابة منع بعض العناوين التي يرى أنها تسيء إلى الدين أو إلى الأخلاق العامة.
وأشار المعلم إلى أن هذا الموقف هو "موقف محفوظ شخصيًّا ولا يمكننا تخطيه".
ولعل إعادة نشر الرواية الأزمة يطرح العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام، حول لماذا الآن؟، وهل ستشهد الحياة الثقافية بمصر أزمةً أخري بعد نشر الرواية مثل الأزمات التي سبقت طباعتها بأعوام؟، هذا ما نتناوله في هذا التحقيق.
في البداية يؤكد د. جابر قميحة- أستاذ الأدب العربي- أن الإسلاميين وقعوا في خطأ فادح عندما نظروا للرواية من وجهةِ النظر الدينية فقط، بينما كان من المفروض أن يقيموها من الناحية الفنية، مؤكدًا أنه بصورةٍ شخصيةٍ لم يستسغ الرواية ووجد أنها تعتبر مجموعةً من اللوحات شبه المنفصلة، ويرى أنها أضعف روايات نجيب محفوظ، ورفضها أعطاها حجمًا أكبر من حجمها الحقيقي بكثير، خاصةً لو قُُورنت برواياتٍ أخرى له كـ"الكرنك" و"السمان والخريف".
واستطرد قميحة أن الحكم على العمل الفني لا ينبغي أن ينفرد به الحكم الديني وإنما يجب أن يكون النقد جامعًا شاملاً، ويُفضل دائمًا اتباع المنهج التكاملي في النقد، والنظر للعمل الأدبي على أساس أنه شريحة لها قيمتها من كل ناحية؛ لأن النقد المبتور يتسبب في ضعف النقد ذاته والإضرار بالعمل الأدبي.
حرية التعبير لا حرية التدمير
ويعود ليؤكد أن حرية التعبير لا تعني حرية التدمير، وإنما ينبغي على ضمير الكاتب أن يحكم الأمر وأن يعالج القضايا معالجةً نظيفةً انطلاقًا من ذاته واعتمادًا على القيم الموضوعية، وبالنسبة لهذه الرواية فمسألة أن نجيب محفوظ يضع فيها العلم في مواجهة الدين هي مسألة بعيدة التصور، ومثل هذه المسائل ترجع إلى النوايا أو إلى مقصد الكاتب.
واعتبر أن نشر الرواية رغم ضعفها أمرٌ لا بد منه لأنها تمثل مرحلةً من مراحل الكتابة لدى كاتبها، مؤكدًا أيضًا أن نشرها لن يكون ضربةً للدين وعدم نشرها أيضًا لن يكون انتصارًا له، فهو عمل أدبي قبل كل شيء وليس عملاً دينيًّا ونحن نتعامل مع القرَّاء على أنهم عقلاء ولديهم آليات الحكم والتمييز.
أما د. محمد رأفت عثمان- عميد كلية الشريعة والقانون الأسبق- فيرى أن المانع من نشر هذه الرواية طوال الفترة الماضية كان بسبب مآخذ دينية وُجهت لها، فإذا كانت هذه المآخذ لا تزال موجودةً فنشر الرواية في هذه الحالة يُعد تحديًا للمشاعر الدينية، يُظهر أن دور النشر لا يهمها إلا المكاسب المادية عبر رواج المادة المنشورة.
ويضيف أما في حالة تعديل هذه المآخذ فالنشر في هذه الحالة يُعتبر مقبولاً، ويؤكد د. عثمان أن مجمع البحوث الإسلامية لا يتعسف في رفض الأعمال الأدبية، وهو ليس جهةً تنفيذيةً فكل ما يمكنه القيام به هو إصدار توصية أو اقتراح بالمنع إذا وجد في العمل ما يُخالف الدين، ولا يتم هذا إلا إذا بلغ إلى علمه انتقادات لعمل ما أو قام أحد المواطنين بتقديم شكوى ضد هذا العمل وتأكدت صحة هذه الشكوى.
من جهته انتقد د. حلمي القاعود- أستاذ النقد بجامعة طنطا- الضجة المثارة حول الرواية معتبرًا أنها طريقة معتادة ومتعمدة من العلمانيين للتشويش على القضايا الأساسية في المجتمع، متجاهلين ما لدى الإسلام من السماحة والرحابة والتي كانت تظهر في حضور الزنادقة واليهود والمجوس في مجلس المأمون، فيتناقشون بكل حرية ويعبرون عن آرائهم، أما العلمانيون اليوم فيتعاملون بالأسلوب الاستعماري الذي يسعى لقهر كل من يحترم ثقافته وتاريخه ويسعون لفرض الثقافة الأوروبية بطريقة الإرهاب الفكري.
ويرى القاعود في نشر الرواية اعتداءً على حق نجيب محفوظ شخصيًّا والذي رفض أن ينشرها إلا بموافقة الأزهر وأن يُصّدرها أحد علماء الإسلام، وإن كان قيام د. العوًّا، ود. أبو المجد بتصديرها، يُعد إنهاءً للقضية التي أخذت أكثر من حقها بكثير خاصة أن هذه الرواية تُعد من أردأ ما كتب نجيب محفوظ من الناحية الفنية أيضًا، ومؤكدًا أن إهمال هذه الكتابات يجعلها تصير إلى طي النسيان أفضل بكثير من مهاجمتها فتنال من الشهرة ما لا تستحق.
ويقارن القاعود بين موقف المثقفين من هذه الرواية وموقفهم من إغلاق 4 من دور النشر بالكامل ولم يُسمع لأي منهم أي صوت رفض أو استهجان، هذا بالإضافة لمنع مواقع النت من الصدور كما حدث مع موقع "إخوان ويب" مؤخرًا.
المعيار الفني
على الجانب الآخر يؤكد إبراهيم أصلان- الكاتب والروائي المصري- أن المعيار الوحيد للحكم على العمل الأدبي والفني ينبغي أن يكون المعيار الفني، وهو الذي يستطيع الحكم على العمل إن كان جيدًا أم لا، معتبرًا أن الخلاف بين النقاد يكون موجهًا للمضمون الفكري الذي يقدمه العمل ويبتعد عن التقييم الموضوعي المرتبط بالجانب الفني، في حين أن اختلاف الأذواق في تذوق أي عمل هي مسألة طبيعية مثل الاختلاف في تذوق الطعام، مؤكدًا أن ردود أفعال الناس غالبًا تكون انطباعية وغير موضوعية.
وعن الرواية فيؤكد أنها كانت دائمًا متاحة في مصر عبر طبعات بيروت، ونشرها في مصر لن يثير أي نوع من الجدل، رافضًا أي نوع من أنواع الرقابة على الفكر أو النشر، ومؤكدًا أن الضابط الوحيد هو ضمير الكاتب نفسه.
النقاش لا المنع
ويتفق معه في رفض أي نوع من أنواع الضوابط على الأعمال الأدبية والفنية د. إبراهيم عبد المجيد- الكاتب والروائي المصري- معتبرًا أن العمل الفني هو قضية قابلة للنقاش لا المنع، مبررًا هذا بأن أي عمل من السهل أن يجد فيه أحد الأشخاص ما يختلف معه، ورافضًا تحويل الأدب إلى قضية رأي عام، مشيرًا إلى أن توجيه النقد للأدب ينبغي أن يكون في الجانب الفني وليس الأخلاقي أو الديني أو الاجتماعي، ومؤكدًا أن الجو العام للمجتمع اليوم هو جو متخلف لا يسمح أو يقبل بالإبداع، وبالتالي فالأديب مطالب بأن يسبق هذا الجو وأن يسبق العصر كله ويكتشف الأماكن البكر التي لم يكتشفها الإنسان العادي، حتى لو كان هذا صادمًا أو مرفوضًا من قبل المجتمع.
ويضيف أن القارئ من حقه أن يوجه النقد الفني للعمل الأدبي ولكن ليس من حقه أن يفرض فكره على الكاتب، والكتاب إذا كان بالفعل منافيًا ومناقضًا لأخلاق المجتمع فلن يُباع، ولن يكون هناك احتياج لمنعه أو مصادرته.
وحول رواية "أولاد حارتنا" يرى د.عبد المجيد أنها رواية جيدة تطرح أسئلةً عديدةً حول العلم والدين وتصل في النهاية إلى حالة من المصالحة أن الإنسان المتعلم لا يصلح أن يكون ملحدًا، والمتدين لا يصح أن يكون جاهلاً، وإنما ينبغي أن يكون الإنسان متدينًا متعلمًا.
الخطوط الحمراء
وتطرح د. عزة هيكل- أستاذ الأدب بكلية الألسن- رؤيةً متوازنةً حول الرواية وخاصة أنها قامت بعمل بحث يحمل عنوان "أولاد حارتنا بين التأويل الفني والتفسير الديني"، مؤكدةً أنه لا يصح أن نعامل النص الأدبي على أنه نص ديني لأن كل الإنتاج البشري يحتمل الخطأ، وبعض الفنانين يستلهمون قصة الوجود بشكل ملحمي حتى يقربوها من أذهان القرَّاء بشكل يجمع بين الفلسفة والحياة في قالب فني، والرواية ليس بها أي انتقاص بالأنبياء بل إن شخصياتها ليست شخصيات الأنبياء فهي شخصيات معاصرة تعيش في حارة ولا ينبغي تأويلها بغير هذا.
وترفض د. عزة تصدير الرواية بأقلام رجال دين، معتبرةً أن هذا خروج بالرواية عن سياقها ومن يقدم لها ينبغي أن يكون ناقدًا أدبيًّا، موضحةً أيضًا أنها ضد أسلوب المنع والحجب، وتعتبر أن الحوار هو الأسلوب الوحيد المقبول في التعامل مع الفكر، وأن كانت تعود فتتمسك بخطوط حمراء لا ينبغي تخطيها كنشر فكر مضاد للدين أو يدعو للزندقة أو يهدم القيم أو يتعرض للذات الإلهية أو الأخلاق الأساسية في المجتمع، موضحةً أن الأدب ينبغي أن يكون وسيلةً لرقي الإنسان من دونيته بحيث يصبح أكثر إنسانيةً وتسامحًا وتفاهمًا وعطاءً.
ولا تجد مانعًا من إعطاء السلطة للرأي العام بأن يطالب بحذف فقرات أو عبارات متصادمة معه من أحد الأعمال وأن يرضخ الكاتب والناشر لهذه الرغبة وخاصة إذا دعمها مثقفون لا يمثلون انتماءً سياسيًّا أو دينيًّا بعينه.
إرسال تعليق